النسخة العربية للملهاة السوداء

من طرف **SAMER0933** السبت يناير 23, 2010 6:33 pm

مرحبــــــــــــــــــا

يبدو أنّنا بدأنا نحن العرب منذ نهاية مرحلة الحرب الباردة نتدرّبَ
على الملهاة السوداء فأتقناها وأصبحت جزءاً من شخصيتنا العامّة والخاصّة
على حدٍّ يكادُ يكون سواء. وإلاّ فكيف يمكن أن ندّعي الفهمَ والوعيَ، ثمّ
نقبل بكثير من مظاهر الكبرياء المترفة والواثقة، أن يتحوّل صديقنا أو من
ليس بعدوّنا، إلى عدّونا حسب مزاج صديقنا العدوّ. فمنذ انتصرت الثورة
الإسلاميّة في إيران قبلنا ما قاله لنا هذا الصديق اللدود، وساهمنا بكلّ
ثقلنا في دفع النظام العراقي السابق إلى شنّ حربه على تلك الثورة، التي
كان أوّل ما أعلنته ليس فقط قطع العلاقات الدبلوماسية وسواها مع الكيان
الإسرائيلي النازيّ، بل وعدّت أوّل أوّلياتها استعادة القدس وفلسطين. ثمّ
كيف أقنع هذا الصديق العدوّ ذلك المغامر، الخارج توّاً من حربٍ مدمِّرة
باحتلال الكويت، وبالتالي تحويل المتحالفين معه إلى متحالفين عليه؟
وبالتالي إيجاد تحالف عربيّ غربيّ بامتياز لإسقاطه؟ والمساهمة في احتلال
عاصمته التي كانت حتى الأمس القريب منارة الفكر العربي منذ العباسيين حتى
بداية نهاية النصف الأول من القرن المنصرم وبدرجات متفاوتة. أو كيف يمكن
أن ندعي الفهمَ وما إن تسقط بغداد ويصبحَ الصديقُ العدّو هوالسائد المطلق
في بلد الرافدين حتى نسارع ونقول ونُقْنَع أو نُقنَّع أو نقتنع بأنّ الذي
يُدمّر العراق هو إيران وليس قوى الاحتلال والقتل. وأبو غريبات التي جاءت
لتجعل من العراق عِراقات ومن القبيلة قبائل ومن العشيرة عشائر ومن الوطن
أوطاناً ومن الوحدة التي يسعى لها أهل الأرض كلّهم شراذم تتقاتل وتتصارع
وتتمايز؟ كيف اقتنعنا بأنّ انتصار المقاومة اللبنانية والمقاومة في غزّة،
أو في أدنى الحدود عدم هزيمتهما خطر يُهدّدُ الأمن القوميّ العربيّ، وعلى
الأخصّ المصري؟! وربّما قالوا أمن الكرة الأرضيّة؟ كيف صار أنَّ إسرائيل
لم تعد تُذكر كعدوّ إلاّ خجلاً هنا وهناك مع بعض التلكّؤ؟ أليس من الملهاة
السوداء أنّنا كنّا نحارب في الخمسينيات والستينيات القواعد العسكرية
الأجنبية والتحالفات والدخول فيها جمعاً، لنسقط فيها بلداً بعد آخر
ونتحوّل إلى محميّات أسوأ من محميات القرن التاسع عشر ونصف القرن العشرين
الأوّل. ألأنّ تلك كانت مفروضة علينا وهذه اخترناها بإرادتنا وعزيمتنا
وتصميمنا. أليس من الملهاة السوداء بمكان أن يقوم نظامُ بلد عربيّ باختراع
لم يسبقه له أحد في التاريخ، على الأقل، هذا ما يقوله هو ولم يدّع أحد
أنّه سرق فكرةَ الاختراع، فيقيم جداراً، ليس كبقيّة الجدران: يرتفع فوق
سطح الأرض، بل يغوص في أعماقها لمسافة ثلاثين وربّما أربعين متراً، وليس
كبقية الجدران من حجر وملاط أو أسمنت مسلح، بل من فولاذ. أعتقد أنّه الأول
في التاريخ وسيسجَّل لمخترعه براءة الاختراع بامتياز.
لكن تصوّروا مع
من هذا الجدار؟ مع القطعة من الأرض التي يجب أن يكون مسؤولاً عن
استعادتها، لأنّه هو الذي لم يستطع حمايتها وتركها سلباًً للكرامة ونهباً
للاحتلال ونهباً للجوع ونهباً للفقر والإهانة، مع غزّة المُحاصرة جوّاً
وبرّاً وبحراً. فأراد أن يطمئن على حصارها أيضاً باطناً وربّما سيغرق
مزروعاتها أيضاً بمياه البحر المالحة حفظاً لأمنه القوميّ. إذ ما عاد أحد
يُهدّد أمن مصر، وليس أمنها الوطنيّ بل القوميّ أيضاً، أمعنوا النظر
جيّداً: القومي، إلا جياع غزّة؟ أليس من المهازل الكبرى والكوميديات
الأكثر سواداً أن تهبّ شعوبُ العالم ضدّ هذا الجدار الذي أقلّ ما يمكن أن
يقال بحق القائمين عليه: إذا أنت لم تستحِ فافعل ما شئت. ولا نهبّ نحنُ؟
فهذا النظام لا يجدُ فيما يجري في جنوب السودان ودار فور ولا في احتلال
العراق ولا في الحرب الدائرة في اليمن، ما يهدّد أمنه القومي. فقد صارت
إسرائيل هي الضامن للأمن القومي المصري. ولأنّ القرار ببناء الجدار وفكرته
هي فكرة وقرار مصريان ليس لأحد علاقة بهما. وهنا تبدو عظمة الاستقلالية
وعظمة الاعتداد بالوطن. وعندما يقولون مصريَّيْن لا يُحدّدون كيف، أي لا
يقولون إنّه قرار الحكومة المصريّة أو الأمن المصري، اللذين يعلم الله مدى
علاقتهما بمصر.
ثمّ أليست ملهاة سوداء ومهزلة من مهازل التاريخ أن
يقومَ الأزهرُ، تمعّنوا جيداً أيضاً ًوشدِّدوا معي على الكلمة: الأزهر،
الذي لا ينطق عن الهوى، فما هو إلاّ وحي يوحى، لكن هذه المرّة ليس من الله
ولا من كتابه ولا من سنّة رسوله ولا من ديمقراطية بلده بل من أولي الأمر
عليه، بشرعيّة بناء هذا الجدار العار.
في الخارج يُحاولون أن يُلقوا
القبض على مُجرمي الحرب الصهاينة الذين لا يعرفون حرمة ولا يرعون عهداً
ويُحاكموهم بفعل ضغط شعوبهم. ومصر النظام تستقبل هؤلاء المجرمين القتلة
بالأحضان وتؤمّن لهم الحماية والرعاية والدلال والأمن وربّما أشياء أخرى
لا يعلم بها غير الله والقائمين عليها. أليس هذا الجدار ومنع وصول قافلة
شريان الحياة من دخول أراضيها بعد أن وصلتها لتقول لهم إنّ عليهم أن
يعودوا إلى اللاذقية ليدخلوها عبر ميناء العريش، الذي لا يملك إمكانيات
لاستقبالها، أو أن يطلبوا من القائمين على القافلة أن ينسّقوا مع إسرائيل،
ملهاة سوداء؟ ثمّ يتحدّثون عن الكرامة والدفاع عن الكرامة حين يتعلّق
الأمر بموضوع كرة قدم بين بلدين شقيقين. أليس من الملهاة السوداء بأعلى
مراحلها كما الإمبريالية، أن يُقتل مصريّ يُحاول أن يعبر، أو، حتى ولو كان
كما أُعلِنَ، أن يتسلّل إلى بلد هو بلده وكأنّه على حدود بين بلدين بينهم
عداوة، وكلّ من يُحاول التسلّل إنّما يفعل كي يقوم بعمل إرهابيّ أو
تخريبيّ، بينما يدخل قارب صيد إسرائيلي أو من يدري صيد ماذا، وهنا لا
يقولون تسلّلَ أو انتهكَ، ويعيدونه مع من عليه سالمين غانمين وربّما بعد
الاعتذار ومع خالص التحيّة، ويُقتل عامل مصري ربّما ضاقت فيه مصر الدنيا
ودنيا العرب، على حدود هذا البلد مع بلد عربي، حتى دون أن تحتجّ حكومة
الكرامة المصرية. ترى ألم يكن من الممكن توقيفه، كما فعلوا مع ركاب القارب
الإسرائيلي، بدل قتله؟ ألم يكن من الممكن الاستماع إليه والتعرّف على
الأسباب التي دفعته إلى أن يُحاول أن يعبر، كما يعبر البدو خط حدود وهميّ؟
إنَّ
سيطرة القواعد العسكرية الأجنبية على منطقة الخليج ومضيق هرمز ودخولها
اليوم إلى اليمن وباب المندب والسيطرة الحتمية عليه ليس تهديداً لأمن
النظام المصري الذي يُسميه أمناً قوميّاً، بينما سدّ شريان ما زال يضخّ
بعض الدم لمليون ونصف مليون فلسطيني هو ضمان لهذا الأمن القومي.
حقيقة
إنّني كلّما حاولت أن أكتبَ عن الوضع العربيّ أجد نفسي أمام ملهاة سوداء
قلّ نظيرها. ربّما سيكون لنا نحن العرب شرف ابتداعها والمساهمة في تطويرها
بحيث أنّنا نقفل ملفّها فلا يستطيع أحدٌ بعدنا أن يزيد عليها أو يُنقص
منها. فلنكمل مسيرتَنا فلا نسمح لأحدٍ بعدنا أن يدخل كتاب غينيس بملهاة
سوداء أكثر سواداً من ملهاتنا، فنحن ندخله وسندخله من أضيق أبوابه وبذلك
نثبت للعالم خطأ قول السيّد المسيح: إن مرور الجمل من ثقب الإبرة لأسهل من
دخول غني ملكوت السماوات، فنحن سندخل من ثقب الملهاة السوداء ولو كانت
أصغر من ثقب الإبرة. وبذلك تكتمل ملهاة سوداء هي الأشد سواداً في التاريخ
الماضي والحاضر واللاحقّ، فندخل بجدارة الكتاب الآنف الذكر.

تحيــاتـــي للجميــــع