سبحان مغيّر الأخبار

من طرف **hadideeb** الجمعة يونيو 25, 2010 6:11 pm

كل من يتابع الإعلام اللبناني هذه الفترة يصاب بالدهشة من صمت الماكينات
الإعلامية الضخمة حول تقرير براميرتز باستثناء صحيفة الديار و قناة المنار
والدور الحيادي المميز لقناة NTV و بعض المقالات التوصيفية الخجولة في صحف
لبنانية أخرى.

فلا وليد جنبلاط علق ولا مروان حمادة شجب ولا باسم السبع استنكر ولا سمير
جعجع استغرب ولا أبو فاعور استهجن ولا شهيّب استوضح ولا العريضي استعرض....
وكأن وحيا جماعيا قد هبط عليهم من غائب علم الله آمراً ناهياً أن "اصمتوا
ولا تعلقوا".

فجأة أصبحت الجريمة لا تهمهم والحقيقة أمست شيء آخر وتربعت أخبار فلسطين و
العراق في العناوين و المواقع الأولى فسبحان العزيز القدير الذي يغيّر و لا
يتغير !

براميرتز قام بعمله بمهنية عالية بعيدا عن السياسة و الإعلام وهو لم يمنح
سوريا البراءة حتى الآن ولا يزال البحث جاريا عن الحقيقة التي سبق لهم أن
شنوا ما يشبه الحرب المقدسة باسمها ونذكر جميعا الأجواء التي كانت سائدة
منذ ستة اشهر عشية قرب موعد تقديم ميليس تقريره الأول إلى الأمم المتحدة
حيث هطلت الأخبار اللبنانية والندوات التلفزيونية واللقاءات والمقالات
كزخات متتالية من القصف المدفعي الثقيل بحق سوريا وبدأ تسريب الأخبار
والإشاعات والمعلومات (المؤكدة) بأن الخراب قد أنشب أظافره بدمشق.

بكل حال أعتقد أن شرح أسباب هذا السلوك الإعلامي مجرد مضيعة للوقت فلا مبرر
لشرح المفهوم فالسوريون يعرفون تمام المعرفة دلالات هذا الصمت المريب وليس
هناك أي فخر بتفنيد أكاذيبهم ونفاقهم السابق .

ما يلفت انتباهي عن التقرير هو الإيحاء الضمني بأن كل هذه الجرائم
الإرهابية تمت من قبل جهة واحدة ولغاية واحدة وهذا كلام جيد ونعلم جميعا
بأن السلسة بدأت من محاولة اغتيال مروان حمادة في الأول من تشرين الأول
2004 أي بعد حوالي الشهر من صدور قرار 1559 ولم يتهم يومها حمادة أحد
وادّعى على مجهول ثم هبط عليه الوحي الجنبلاطي بعد حوالي الشهر من الحادثة
بأن سوريا هي التي تقف وراء المحاولة و من المهم هنا التذكير بان رفيق
الحريري هو الذي وقف يومها في وجه التجييش وهو الذي استوعب الأجواء
المشحونة التي كان جنبلاط يذكيها بتواتر تصاعدي مدروس.

استنتاج براميرتز له دلالات عديدة اهمها أن كل المنولوج السخيف حول التهديد
الذي تعرض له الحريري في دمشق مجرد هراء في هراء فالمشروع كان قد ابتدأ
سواء تعرض الحريري لتهديد أم لم يتعرض فإذا كان للحريري وزن حقيقي في سوريا
فإن حمادة (مع بعض الاحترام) ليس له أي وزن سياسي لا في سوريا ولا في
لبنان ولا في غيرها فهو احد المفاصل الدوارة بين جملة من القوى اللبنانية
مثل اللقاء الديموقراطي وتيار المستقبل و بعض القوى المسيحية وهو ليس رجل
المبادرات بل هو رجل المباركات الذي يُطلب منه أن يكون شاهدا مباركا على
متغيرات مهمة وذلك بسبب سهولة قولبته سياسيا ودينيا وإعلاميا بين مجموعة من
المتناقضين وهذا الدور معروف عنه منذ أن تم استدعاؤه مع قلة أخرى ليكون
شاهدا على الاتفاق الثلاثي الشهير الموقع في دمشق بين جنبلاط و بري و حبيقة
في كانون أول 1985 وصولا إلى دوره المحتمل في القرار 1559 فالمطلوب منه
المباركة والترويج وليس صحيحا أن له دورا مهما في الصياغة أو في الإعداد.

من المفيد أن نتذكر أيضا أن محاولة اغتيال حمادة كانت عشية جلسة الأمم
المتحدة لمتابعة القرار 1559 و لا حاجة لسوريا في هذا الوقت لإثارة أية
مشاكل في لبنان وقد تزامنت محاولة الاغتيال بتصريح في غاية الأهمية لسلفيان
شالوم وزير خارجية إسرائيل الذي قال بكل بساطة وبكل وضوح (يهدف القرار
1559 إلى فك الارتباط السوري اللبناني وإجبار لبنان في وقت لاحق لتوقيع
اتفاقية سلام مع إسرائيل) وقد سبب هذا التعليق الكثير من الحرج
للإسرائيليين و يذكر اغلبنا الأمر الصارم الغريب الذي أصدره شارون لكل
وزراء حكومته بعد اغتيال الحريري بعدم إعطاء أي تصريح للإعلام حول الأحداث
في لبنان هذا الأمر لا يمكن فهمه إلا كمحاولة شارونية لوقف تسريبات وذلات
لسان مقصودة أو غير مقصودة قد تضع إسرائيل في ورطة كما يفعل تصريح شالوم
السابق.

فإذا لم يكن لسوريا أية مصلحة بمحاولة اغتيال حمادة فماذا يمكن القول عن
سمير القصير مثلا الذي عرفه السوريون بعد اغتياله ولم يكن له أي حضور مهم
لا سياسيا ولا إعلاميا و ماذا عن جبران تويني الذي اغتيل بطريقة و بتوقيت
يمكن اتهام كل أطراف العالم بها ما عدا سوريا ويعلم الجميع أن تويني معروف
بعدائه القديم جدا لسوريا إلا انه لم يتعرض في أي يوم من الأيام لأي مضايقة
سورية و كان يُنظر إليه على انه شخص حاقد ذو مطامع لا تستحق التعليق
لاسيما انه آتٍ من عالم الصحافة وليس من عالم السياسة فليس لهذا الرجل أي
وزن سياسي على الإطلاق و فرقعاته الإعلامية كانت للاستهلاك المحلي وللفت
الانتباه كذلك لماذا جورج حاوي أو مي شدياق أو الياس المر المحسوب على
سوريا يوم محاولة اغتياله. رحم الله جميع من فقدوا حياتهم في هذه الجرائم
البشعة فحتى لو كان هناك خلاف من نوع ما مع بعضهم لكن تغييبهم أو تشويههم
جسديا لا يخدم سوريا بأي شكل من الأشكال و وحدها جهة عنصرية حاقدة لديها
تصور خاطئ عن سوريا قد تلجأ لهذا السلوك البدائي ويمكن القول أن هذه
الاختيارات تشير لكل ذي عقل بأن المقصود هو اتهام سوريا وتصويرها كمصدر
للعنف.

كل هذه الجرائم كانت تهدف إلى خلق أجواء مناسبة لتطبيق القرار 1559 الذي
رُفض بداية في سوريا وفي لبنان ولم تُبد سوريا أي اهتمام به في الوقت الذي
كان البعض متحمسا جدا لتحقيقه ويبدو أن الحريري دفع ثمن فشل محاولة اغتيال
حمادة التي كان من المفترض إن تؤدي إلى نفس الأجواء التي شهدناها إبان
اغتيال الحريري لكن فشل المحاولة و موقف الحريري المهدئ كان على ما يبدو
نقطة البداية للتحضير لضربة اكبر دفع الحريري ثمنها.

أن الفترة التي تم فيها الإعداد لهذه الخطوات كانت فترة إعادة الانتخابات
الرئاسية الأمريكية أي انشغال الدوائر السياسية هناك بالكامل مما يفسح
المجال لدور إسرائيلي أكثر عدوانية تجاه لبنان وقد يكون مناسبا هنا التذكير
بالدور الأمريكي التاريخي في لبنان وهو دور كابح للاسرائيلين تجاه لبنان
فأمريكا لا تريد المزيد من الحرائق المشتعلة في العالم التي تعتبر نفسها
زعيمته الوحيدة بالإضافة للدور المتردد الأخر وهو تعاطف بعض الشخصيات في
الإدارة الأمريكية الذي يتجلى بمحاولات محدودة وقصيرة الأجل تجاه لبنان
وحديثا برز اهتمام أمريكي أخر وهو سلاح حزب الله وهو الشق الذي فرضته
أمريكا على القرار 1559 صحيح أن رايس زارت لبنان لكن مما لا شك فيه أن
اللوردات هناك يعلمون أن رايس ليست من المحافظين الجدد بل هي من مطفئي
الحرائق بمعنى أنها خارج دائرة القرار فهي أفضل من يسوق جورج بوش دوليا
ويلطّف حماقات المحافظين الجدد وهذا الأمر معروف جيدا في أوربا و روسيا
والصين وقد فُهمت زيارتها للبنان بشكل صحيح ليس في بيروت كما يُظن بل في
باريس ضمن مساعي رايس لوقف الضغط الأوروبي حيال الاختراقات الأمريكية في
أوربا. ويعلم أكثر المتابعين أن الدوائر السياسية الأمريكية تصنف لبنان
تصنيفا غريبا وهو انه (دولة لا معنى لها) و ليس للبنان أي أهمية في السياسة
الأمريكية على عكس سوريا التي لها دور محوري مهم وليست الموافقة الأمريكية
على القرار1559 إلا ضغطا على سوريا وكل الكلام الجميل الذي يصرح به
المسئولين الامريكين عن لبنان مجرد دعاية إعلامية عن المبادئ الأمريكية
وأفضل من يعرف هذا الكلام هو الجنرال عون الذي لم يجد من يستقبله في أمريكا
عام 2005 علما بأن الرجل قد سبق واستُقبل هناك استقبال الفاتحين عندما كان
الحديث عن معاقبة سوريا عام 2003, كذلك فإن المرشح الرئاسي المستقل شبلي
الملاط الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع دوائر القرار في واشنطن لا يبدو أن له
أية حظوظ في الحصول على الدعم الأمريكي في لبنان.

اللامبالاة والانشغال الأمريكي وتقاطع المصالح كان المبرر للتوافق
الإسرائيلي الفرنسي حول لبنان ففرنسا المنتظرة اُنتزع منها لبنان بالكامل
سنة 1991 وهي تريد العودة للشرق الأوسط بأي شكل لا سيما بعد التمدد
الأمريكي المرعب في المنطقة و نعلم جميعا أن كل الخطوات التصعيدية تجاه
سوريا هي فرنسية الصنع و دور أمريكا هو تقاطع مؤقت للمصالح قد لا يتكرر
فمطالب الإدارة الأمريكية من سوريا كما نقلها باول في بداية 2004 لم تكن
تحمل أية إشارة لجوهر القرار 1559 إلا من ناحية سلاح حزب الله فلو وافق
الرئيس الأسد يومها على مطالب باول فهل كنا سنشهد هذا القرار وتداعياته؟
أستطيع أن أكون جازما بأن القرار برمته مع كل أثاره يمكن أن يوضع على
الرفوف الآن أو في أية لحظة توافق فيها سوريا على تجريد حزب الله من سلاحه.

بالعودة لتقرير براميرتز يبدو أن التحقيق الحقيقي قد بدأ للتو وكل ما
نتمناه أن يتابع خطواته بمنهجية بعيدا عن السياسة والأضواء والإعلاميين
المتذبذبين ولدي حدس بأن الطريق حافل بالمفاجآت و لن يكون مستغربا أن تتغير
عناوين الأخبار الآتية من لبنان تغيرات جذرية قد تبدو بعيدة الآن و بالفعل
صدق من قال:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا و يأتيك بالأخبار من لم تَـزْودِ