نبيه البرجي | غيبوبة العبيد

اذا كان هناك في المعارضة السورية من لم يؤخذ بسحر الكلام، وسحر المال،
وهما يتدفقان الان، من كل حدب وصوب، على كل من (وما) هب ودبّ...
اذا
كان هناك في المعارضة من هــم في البرج الـــعالي ينــظرون الى الناس كما
نظرت اليهم ماري انطوانت ذات يوم، ومن هم في الشارع يعتبرون ان صيحاتهم،
وبعضها محق بل ومحــق جدا، ستهز الدنيا، فيما الدنيا في مكان آخر. واذا كان
هــناك من ضــلل بهم وأعطوا تأشيرة دخول، من الباب العريض ودون اي معوقات
بيروقراطية، الى الجنة، فهذه هي ملاحظات من الأرض لأهل الأرض، وبعيدا عن
لغة البهلوان أو لغة المهرج، وما أكثرهم في هذه الأيام:
لم تعد
المسألة سقوط النظام، أو اصلاح النظام، أو عقلنة النظام، كما يقول هذا
الطرف أو ذاك، فالذي يعني قارعي الطبول، كما ناقري الدفوف، الان، وجلّهم من
اصحاب المقامات (لا القامات) العليا، أبعد بكثير من الناس، ومن صراخ
الناس، وبعدما أظهرت الاتصـالات والسيناريوات التي بات الكثير منها مرئيا
وواضحا، ان مستقبل السوريين لا يعني اصلا من هم اما خائفون على انظمتهم،
وغالبا ما تكون وراء الزمن، أو طامحون الى أدوار جيوبوليتيكية أكثر دويا،
أو حالمون بالامساك بقرني الشرق الاوسط الذي اعتبر حتى هنري كيسنجر ان
الامساك به اشبه ما يكون بالامساك بالمريخ (وهذا اخر تعبير له).
ثمة
جاذبية للشارع، وللصراخ في الشارع، وثمة جاذبية للضوء، حتى لو تم التلاعب
به كما يجري الان عبر الشاشات أو غير الشاشات، وثمة قناعة في كل مكان لم
يلامسه لا التلوث الاستراتيجي ولا التلوث الايديولوجي، بان ما يدعو اليه
الناس من حرية وديموقراطية هو قدس الاقداس، ولكن ألا يلاحظ الناس اياهم ان
قضاياهم توضع مرة أخرى في حقائب القناصل، لتتم برمجتها على قياس المصالح لا
على قياس القيم ولا على قياس القلب...
لا نلقي الكلام جزافاً، ولا
للموعظة ، فاللغة ( العربية) فقدت حتى ثدييها، كما كان يقول المعارض
الحقيقي، النبيل والجريء، محمد الماغوط، لكنه هو بالذات من دعانا الى الا
نبيع بكاءنا في سلال على ارصفة القطارات. القطارات الذاهبة بعيداً،
بعيداً...
الثابت تمــاماً من مشـاهدات الارض ان ما من قوى خارجية
تسـتطيع ازالــة النظام، وان رهان البعض، وقد تناهى كلامهم الينا بدقة، على
انهاك مؤسسات الدولة، وتيئيسها، او تفجيرها، هو رهان ساذج ويخلو كلياً من
الواقعية، فيما القوى خارجية مختلفة في ما بينها حول توزيع سوريا، فما من
خدمة تقدم مجـاناً ومن اي جـهة اتت، فيما المعارضة ونقول، ثانية، اننا
رصدنا ذلك على الارض، اكثر من معارضة، فهل قرأ برهان غليون، هو الضليع في
تحليل الامور، كما في الاستدلال والاستقراء، ماذا تعني قنابل يوم الجمعة،
واي نوع من الايدي، ومن الرؤوس، كانت وراء المذبحة ؟
لا نقول البتة ان
النظام في احسن حال، فهناك بين اهل النظام من لم يدرك ما هي سوريا، ولم
يدرك من هم السوريون، كما اننا واثقـون، مما رأينـاه ومما سمعناه، لا سيما
لجهة التعبئة الغرائزية التي طالما ظلت بعيدة عن العقل السوري، من ان
المعارضة ايضا ليست بأحسن حال، فثمة اكثر من هوة، اجل هوة، تفصل بين هذا
«الفصيل» او ذاك، دون ان يبقى سراً ان دولاً تدخلت، بما ملكت ايديها، لمنع
بلوغ الخلافات، او حتى الانشقاقات، السطح....
هذه مسألة لم تعد خفية
على احد، كما انه لم يعد خفياً على من في الداخل كما على من في الخارج، ان
هناك في النظام، كما في المعارضة، من تعنيهم سوريا قبل اي شيء آخر، ولم تكن
المناورات العسكرية الضخمة للقول ان النظام قوي ولن يقع وانما للقول ان
سوريا قوية ولن تقع، اذ لو وقعت لكانت الطامة الكبرى، لصدق وصف البعض للعرب
بأنهم كما ضواحي الصفيح قبائل من الصفيح....
من اجل سوريا، ومن اجل
السوريين الذين يكتشفون يوماً بعد يوم اي صعوبات تواجهها القوى الخارجية
التي استقر رهانها الاخير على تمديد الازمة، وتمديدها، الى ان يتحول الجميع
الى اشلاء، واذ ذاك يكون للاعبين الكبار ما سعوا من اجله ليس الان، وانما
على مدى القرن المنصرم....
اجل ومن اجل سوريا التي بات معلوماً كيف
تستباح حدودها، ومدنها، واهلها في ما يمكن وصفه بحرب عالمية بكل معنى
الكلمة، ودون اي مغالاة، وبمعاونة عرب اشاوس لطالما وضعوا ظهورهم بتصرف كل
من لا يرى في هذه المنطقة سوى حقل للذهب هنا وحقل للإبل هناك....
علّ
العرب، وقد ترددت اقاويل حول يقظة لدى البعض، يساعدون على الحـل في سوريا،
لا على انحلال ســوريا او تحللها لان تحللها يعني ان القرون الغابرة عائدة،
علينا الغيبوبة ثانية.
هذه المرة.... غيبوبة العبيد!